كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وبالجملة، ما صار مستحق الإسقاط فحكمه أن يسقط، ولا نعرف في مسائل الشرع مسألة أعوص على أصحاب الشافعي من مسألة الإيتاء، ولا معتمد لهم فيها إلا آثار الصحابة، وهي معتمدة قوية ذكرناها في كتاب المصنف في الروايات.
واعلم أن الكتابة من الأسماء الشرعية، فإنها على الوجه الذي ثبت في الشريعة لم تكن معلومة، فحل ذلك محل الصلاة والصيام.
ثم اختلفوا بعد ذلك، فمنهم من قال: يعقل من ظاهرها التأجيل: إذا لم يكن شرطا فيها لم تكن كتابة.
وقال بعضهم: بل لا يعقل ذلك من الظاهر، وهذا أظهر، فإن الشيء قد يكتب ولا تأجيل فيه، كما قد يكتب وهناك تأجيل، فالظاهر لا يدل على ذلك، وقول من يقول إنها تجوز حالة، وقول من يقول لا تجوز إلا مؤجلة أو منجمة موقوف على الدليل، لأن الظاهر لا يشهد بأحد هذه الوجوه.
واختلفوا في صورة الكتابة، فقال بعضهم: يكفي أن يكاتبه على دراهم معدودة فيعتق بالآداء في وقته.
وقال بعضهم: بل لابد أن يقول: فإذا أديته إلي فأنت حر، ليجمع بين العقد وبين تعليق الحرية بالصفة، لأن عنده أن العقد بينه وبين السيد لا يصح، فتحريره له تعلق بصفة تصح، فلابد من ضم ذلك إليه.
ولم يختلفوا في أن ذلك رخصة، لأنا لو خلينا العقل، لكان يبطل، لأنه أزال ملكه بملكه، إذ الذي تحصل في يده ملك للمولى، لكنه بعقد الكتابة جعل لما يحتوي عليه حكم مخصوص، لم يبلغ حد الملك، ولا وقف على الحد الذي كان وهو رقيق خالص.
وأحكام الكتابة مبينة في مسائل الفقه.
قوله تعالى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} الآية/ 33.
روي عن جابر في سبب نزول الآية، أن عبد اللّه بن أبي بن سلول كانت له جارية يكرهها على الزنا.
والعبرة بمطلق اللفظ، فتدل الآية بمطلقها على تحريم الإكراه على الزنا، وعلى تحريم أخذ البدل، وهو المراد بنهيه صلّى اللّه عليه وسلّم عن مهر البغي، وتدل على أن الإكراه يصح في الزنا فيما يحصنها، لأنه مفعول فيها، فعلى كل الأقاويل يجوز أن تكره عليه، ويدل على أنها إذا أكرهت فلا إثم عليها، فإن اللّه تعالى قال: {فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} الآية/ 33.
فإن قيل: فإذا لم يكن عليها إثم لمكان الإكراه، فما الذي يغفر؟
فجوابها أن يقول:
لما كان لولا الإكراه لكان عليها إثم في ذلك، زال الإثم لمكان الإكراه، وبين أن دخول الإكراه فيه هو الذي أزال عقابه، ولذلك ألحقه بباب ما يغفر، وهذا كما قال اللّه سبحانه في تناول الميتة بلا إثم للمضطر: {فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
{إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا}:
إنما ذكر تصوير الإكراه، لأن الإكراه لا يتصور إلا مع بذلها نفسها، فذكر إرادة التحصن تصوير الإكراه.
قوله تعالى: {وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} الآية/ 48.
فيه دليل على أن من ادعى على غيره حقا ودعاه إلى الحاكم، وجبت عليه إجابته والمسير معه إليه، وعلى الحاكم أن يعد به عليه.
قوله تعالى: {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ} الآية/ 58.
قال المفسرون: هذا في الإماء، فأما في العبيد فلا، لأنه ذكر بلفظ مذكر، بناء على لفظ المماليك المتناول للرجال والنساء، ولو حملناه على العبد البالغ، استوى في وجوب الاستئذان هذه الأوقات وغيرها، من حيث يحرم عليه أن ينظر إلى عورة سيده وبدن سيدته، ولو حمل على ما دون البلوغ، حصلت فائدته في قوله: {وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ} إلا أنه يقال بين اتفاق حال الفريقين في ذلك، ودل على صحة ذلك بقوله: {وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} الآية/ 59.
ذكر إسماعيل بن إسحاق أن ابن عباس كان يقول: «ليستأذنكم الذين لم يبلغوا الحلم مما ملكت أيمانكم»، وذلك يوافق ما قلناه.
وروى أن نفرا سألوا ابن عباس عن هذه الآية فقال: إن اللّه غفور رحيم، رفيق بالمؤمنين، يحب السترة، وكان الناس لا سترة لبيوتهم، فربما دخل الخادم أو اليتيمة، والرجل مع أهله في الخلوة، فأمرهم اللّه تعالى بالاستئذان في تلك العورات.
وإنما خص اللّه تعالى هذه الأوقات، لأنها في الغالب يخلو فيها المرء بأهله. ولذلك قال: {ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ} فنبه به على أنها أوقات تكشف العورة فيها وفي مثلها، لا يجوز لمن ليس ببالغ أن يدخل ويهجم.
فأما في سائر الأوقات، فالعادة أن يكون المرء مستترا عادلا عن التكشف، فجائز للخدم والصغار أن يدخلوا بلا إذن، لأنه كالمحتاج إليهم من حيث لا يستغني عنهم في خدمة الدار، ولذلك وصفهم اللّه تعالى بأنهم:
{طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ} كما قال عليه السلام في الهرة: «إنها من الطوافين عليكم» لما صعب التحرز منها.
ولو جرت عادة قوم بالتكشف في غيرها من الأوقات، فذلك الوقت كهذه الأوقات في منع من لم يبلغ الحلم من الدخول بلا إذن، ولو جرت عادة قوم في الأوقات الثلاثة بالتستر، فالأوقات الثلاثة كغيرها.
قوله تعالى: {وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحًا} الآية/ 60.
وعنى به الكبيرة السن، وجوز لها أن تضع الرداء أو اللحاف أو الخمار، قال ابن عباس:
المراد به الجلباب من فوق الخمار، ومعلوم أنه غير مجوز لها أن تكشف من بدنها عورة، لأنه إن كان حالة الخلوة بنفسها، فالعجوز والشابة سواء، وإن كان بين الناس، فالواجب حمله على الجلباب وما فوق الخمار لا نفس الخمار، لأن من شأن الجلباب أن يبلغ مع الستر النهاية، ومع الخمار قد ينكشف من رؤوسهن وأعناقهن بعض التكشف، فأبان اللّه تعالى أن هذا التحرز ليس وجوبه عليهن كوجوبه على الشابات، لأنه ليس في النظر إليهن من خوف الافتتان كما في النظر إلى الشابة، فلذلك قال في آخره: {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ}.
قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ} الآية/ 61.
روى إسماعيل بن إسحاق عن سعيد بن المسيب، أن هذه الآية نزلت في ناس كانوا إذا خرجوا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وضعوا مفاتيحهم مع الأعمى والأعرج وعند الأقارب، وكانوا يأمرونهم بأن يأكلوا من بيوتهم إذا احتاجوا إلى ذلك، وكانوا يتقون الأكل خشية أن لا تكون أنفسهم بذلك طيبة، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية.
وروى أيضا، أنهم كانوا إذا اجتمعوا للأكل، عزلوا الأعمى والأعرج والمريض كراهة أن يصيبوا من الطعام ما يصيبون، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية.
وذكر الحسن أن المراد به رفع الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض في باب الجهاد، وأن قوله: {وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} الآية/ 61. كلام مستأنف، فقد كان أحدهم لا يحلب ناقة إلا أن يجد من يشرب من لبنها، ولا يأكل في بيت أحد تكرما، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية، وهو الذي اختاره الأكثرون، ويحمل قوله: {وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} على أن ذلك كان رخصة في الأول، وأباح تعالى الأكل من مال من ذكره، وأباح أن يأكلوا من البيوت التي مفاتيحها في أيديهم، وبيوت أصدقائهم دون إذن، حضروا أم غابوا، ثم نسخ ذلك بما ظهر في الشرع، من أنه لا يحل مال أحد إلا بطيب نفس منه، ودل على ذلك بقوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ} وقد كان في أزواج النبي عليه الصلاة والسلام من كان لهن الآباء والإخوان، فلما عم بالنهي علم به النسخ.
فإن قيل: فما الذي يليق بالظاهر؟ فجوابنا أنه يبعد أن يكون المراد به: ليس على الأعمى حرج، إلا ما يتصل بالأداء، لأنه رفع الحرج والجناح عنه، ثم إنه ذكر بعد ذلك أمرا مخصوصا، فوجب حمله على ذلك الأمر، فأما قوله تعالى: {وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} فلعل الأولى من الأقوال، أنه ورد فيمن كان يأذن ويشح من هذه الطائفة، وكان القوم يتوقون لبعض هذه الوجوه التي رويناها، فبين اللّه تعالى أن إباحة ذلك إن كان واردا مع طيبة النفس، لا وجه للنسخ فيه.
فإذا قيل: فإن كان كذلك، فلم إذا خصصهم بالذكر، وعند الإذن وطيب النفس الكل سواء؟
فالجواب أنهم خصوا بالذكر، لأنهم كانوا يتقدمون عند السفر والغزوات إلى أقربائهم، وإلى من خلفوهم من الزمنى والعرجي والعميان، أن يأكلوا من منازلهم، فنزلت الآية على هذا السبب. فلذلك خصوا بالذكر.. فأما حمله على أن ذلك يحل بلا إذن فبعيد.
ودل بقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتاتًا} على أمور:
منها أنه يحل للجماعة أن يجتمعوا على طعامها، وإن كان أكلها من ذلك الطعام يتفاضل، وقد كان يجوز أن يظن أن ذلك محرم، من حيث إنهم لا يستوون في قدر ما ظهر من الطعام، ثم يتفاضلون في الأكل، فأباح اللّه تعالى ذلك.
ومنها: أن مؤاكلة من يقصر أكله عن أكل الباقين، لأن الأعمى إذا لم يبصر، فلا يمكنه أن يأكل أكل البصير، فأباح اللّه تعالى ذلك، وأباح انفراد المرء عن الجماعة في الأكل، ويجوز أن يظن ذلك مستقبحا في الشرع كما يستقبحه أهل المروءة.
قوله تعالى: {فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ} الآية/ 61.
حمله الحسن على سلام البعض على البعض، لما فيه من البركة والدعاء الصالح وتآلف القلوب.
وذكر إسماعيل بن إسحاق عن جماعة، أن المراد به أن يسلم المرء على نفسه إذا لم يكن هناك غيره يسلم عليهم، ومن السنة أن يقول:
السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين، وهذا أليق بالظاهر.
ولا خلاف في أنه لو كان في الدار غيره، صرف السلام إليه، وليس في الظاهر تخصيص، وذلك يقوي قول الحسن.
وفيه وجه آخر: وهو أن السلام بالشرع صار كالمخاطبة.
وقال الفقهاء في تسليم الرجل في الصلاة: أنه يجب أن ينوي من خلفه إن كان إماما أو ينوي الملائكة أو الحفظة، ومعلوم أن المرء قبل دخول البيت هو مندوب إلى أن يسلم على نفسه فيقول: السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين، لأنه كالدعاء، مما يجرى فيه الخطاب.
قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} إلى قوله: {وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} الآية/ 62.
يدل على أن من الايمان أن يستأذنوا الرسول في الانصراف عنه في كل أمر يجتمعون معه فيه، وقد روى مجاهد، أن المراد به الجمعة والغزو.
وقال الحسن: الجمعة والأعياد وكل ما فيه خطبة.
ثم خير اللّه تعالى رسوله في اختيار من يغزو معه، وبين أن الذي ينعته رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ليس له أن يتخلف ويحيل على غيره.
والذي يشهد به الظاهر، أن كل أمر جامع للرسول عليه السلام فيه غرض، فليس لهم أن ينصرفوا عنه ما دام الغرض قائما، ويدخل فيه الغزو والجماعات، ولكن هذا الأمر هو أخص بالغزو، فإنهم قد كانوا يتفرقون عنه من غير إذنه، فيؤثر ذلك في الغرض المطلوب، فمنع اللّه تعالى من ذلك، وبين أن الأمر في انصرافه موقوف على إذنه بقوله: {لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ} على أنه لا يجوز لهم أن يستأذنوا، إلا إذا عرضت لهم حاجة تقتضي ذلك، لأنه إذا لم يكن لهم حاجة، فملازمة الرسول أولى.
وفيه دلالة على ما يلزم من أدب الدين، وأدب النفس، فمن هذا الوجه قال الحسن:
لا فرق بين الرسول والإمام فيما يلزمهم من ذلك، ولا يمنع من حيث تضمن هذا الظاهر أدب النفس أن يكون الأولى بالمراد:
إذا اجتمع جمع لخير أن لا يتفرق عنهم إلا بإذن، لما في تفرقته من اختلال ذلك الأمر المطلوب، والاجتماع عليه أقرب إلى التعاون على التقوى.
وقوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ} يدل على أن الرسول عليه الصلاة والسلام لا يحل له أن يستغفر إلا لمن تكامل إيمانه، لأنه شرط فيه تقدم فيما ذكرناه.
ويحتمل أن يراد به أن من أذن له في مفارقة الجهاد لبعض شأنه، يكون في الظاهر مقصرا أو متأخرا في الفضل عن غيره، فأمر اللّه تعالى نبيه أن يستغفر لهم، ليكون استغفاره جبرا لهذا النقص، فلا ينكسر عند ذلك قلب هذا المتأخر عن الجمع.
قوله تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} الآية/ 63.
فالمروي عن ابن عباس أنهم كانوا يقولون:
يا محمد، يا أبا القاسم، فنهاهم اللّه تعالى عن ذلك وقال:
قولوا: يا نبي اللّه، يا رسول اللّه، وهو المروي عن عكرمة والضحاك، وحمله مجاهد على خفض الصوت والتواضع، وهو معنى قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ}..
قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} الآية/ 63:
أراد به ذكر ما تقدم من تسللهم، وذلك يدل على وجوب امتثال مطلق أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على ما بيناه في أصول الفقه. اهـ.